سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قلت: {مِن} الأولى: مزيدة للاستغراق، والثانية للبتعيض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما تأتيهم من آية} دالّة على توحيد الله وكمال صفاته، إلا أعرَضوا عنها، أي: الكفار، أو: ما تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على قدرة الله وصدق رسوله، أو: ما تأتيهم آية من آيات القرآن تدل على وحدانية وكمال ذاته، {إلا كانوا عنها مُعرِضين}؛ تاركين للنظر فيها، غير ملتفتين إليها.
{فقد كذبوا بالحق} وهو القرآن {لمَّا جاءهم}، وهو كالدليل لِما قبله، لأنهم لمّا كذبوا بالقرآن وهو أعظم الآيات فكيف لا يُعرضون عن غيره من الآيات؟ ثم هدَّدهم بقوله: {فسوف يأتيهم أنباء} أي: أخبار {ما كانوا به يستهزئون} أي: سيظهر لهم، عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة، ما كانوا يستهزئون به من البعث والحساب، أو عند ظهور الإسلام وارتفاعه.
الإشارة: مَن سبق له الخُذلان لا تنفعه الأدلة وتواتُر البرهان، ولا تزيده ظهور المعجزات أو الكرامات إلا التحاسد وظهور العداوات، ولا يزيده الدعاء إلى الله والتناد، إلاَّ الإعراض عنه والبعاد، نعوذ بالله من الشقاء وسوء القضاء.


قلت: {كم}: خبرية، مفعول {أهلكنا}، أي: كثيرًا أهلكنا من القرون، والقرن؛ مدة من الزمان تهلك أشياخُها وتقوم أطفالُها، واخُتلف في حدِّها، قيل: مائة، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل القرن: أهل زمان فيه نبي أو فائق في العلم، قلَّت المدةُ أو كثُرَت، مشتق من قرين الرجل. والمطر المِدرار هو الغزير، وهي من أمثلة المبالغة، كمِذكار وميناث.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم يروا} ببصائرهم رؤيةَ اعتبار، {كم أهلكنا من قبلهم} من أهل عصر {مكنّاهم في الأرض} أي: جعلناهم متمكّنين فيها بالقرار والسُّكنَى والطمأنينة فيها، أو أعطيناهم من القوة والآلات ما تمكَّنُوا بها من أنواع التصرف فيها؛ فقد {مكّناهم ما لم نمكّن لكم} يا أهل مكة، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم، أو أعطيناهم من القوة والسَّعة في المال والاستظهار على الناس بالعُدَّة والعدَد وتَهَيُّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم.
{وأرسلنا السماء} أي: المطر أو السحاب {عليهم مِدرَارًا} أي: مِعزارًا على قدر المنفعة بحسب الحاجة، {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي: أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم، فعاشوا في الخصب والريف، بين الأنهار والثمار، فعَصوا وطَغوا وبَطرُوا النعمة، فلم يُغنِ ذلك عنهم شيئًا. {فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا} أي: أحدثنا، {من بعدهم قرنًا آخرين} بدلاً منهم. والمعنى: أنه تعالى كما قدَّر أن يُهلك مَن تقدم مِن القُرون، بعد أن مكَّنهم في البلاد واستظهروا على العباد، كعاد وثمود، وأنشأ بعدهم آخرين عمَّر بهم بلاده، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: النظر والاعتبار يُوجب للقلب الرقَّة والانكسار. وهي عبادة كبرى عند العُباد والزهاد. أُولي العزم والاجتهاد. وفوقها: فكرة الشهود والعيان، وهي الفكرة التي تطوي وجود الأكوان. وتُغيب الأواني بظهور المعاني، أو تريها حاملة لها قائمة بها، فالأُولى فكرة تصديق وإيمان، والثانية فكرة شُهُود وعِيان. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولو نزَّلنا عليك} يا محمد {كتابًا} مكتوبًا {في قرطاس} أي: رَقٍّ، فرأوه بأعينهم، ولمسوه بأيديهم، حتى لا يبقى فيه تزوير، لعاندوا، ولقال {الذين كفروا منهم} بعد ذلك: {إن هذا إلا سحر مبين}؛ تعنتًا وعنادًا، وتخصيص اللمس؛ لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز، فإنه قد يُتَجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} [الجنّ: 8].
ثم اقترحوا معجزة أخرى، {وقالوا لولا أُنزل عليه ملك} يكلمنا أنه نبي، {أو يكون معه نذيرًا} أو شهيدًا له بالرسالة، رُوِي أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك. قال تعالى: {ولو أنزلنا ملكًا}، كما طلبوا {لقُضي الأمر} بهلاكهم، فإنَّ سُنة الله جرَت بذلك فيمن قبلهم؛ مهما اقترحوا آية، فظهرت ثم كفروا، عجَّل الله هلاكهم، {ثم لا يُنظرون} أي: لا يُمهلون بعد نزولها ساعة.
وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك كما اقترحوا فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليُطيقوا رؤيته، {ولو جعلناه ملَكًا لجعلناه رجلاً} ليتمكنوا من رؤيته، كما مثّل جبريل في صورة دِحية، فإن القوة البشرية لا تقوَى على رؤية الملائكة. وإنما رأوهم كذلك الأفرادُ من الأنبياء، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا: إنما هو بشر لا مَلك، فهذا قوله: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} أي: لخلَطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلاً مُلبسًا يطرق لهم إلى أن يُلبِسوا به على أنفسهم وضعفائهم؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته؛ ليبقى سر الربوبية مَصُونًا، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها، حتى علمها ضرورة، وغيره يلبس الأمر عليه فيها. وبالله التوفيق.
الإشارة: كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء، لا تظهر إلاَّ لأهل الصدق والتصديق، ولا يتحقق بولايتهم إلاَّ من سبق له الوصول إلى عين التحقيق. سبحان من لم يجعل الدليلَ على أوليائه إلا من حيثُ الدليلُ عليه، ولم يُوصَل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضِي البعد عنهم. وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8